باب فرض العلم
وهو قسمان: شرعى وسياسى فالسياسى قد أفردنا له كتاباً نضمه إليه إن شاء الله آخر
الكتاب، ويكفى عن ذلك كله إن لم نذكر ما نذكره من أخلاقه صلي الله عليه وسلم أوائل
الكتاب.
أما الشرعى فهو أقسام أحدها ما جاء الإيمان به مجملاً لا يقبل التفصيل كالشهادتين وذكر
صفات الحق وذاته مما منع الشرع من الخوض فيه كما جرى عليه السلف الصالح من
الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والمحدثين رضى الله عنهم أجمعين. قال الإمام الشافعى:
كل ما جاء الإيمان به مجملاً وسكت النبى صلي الله عليه وسلم عن تفصيله من دقائق
الاعتقادات وأحوال البرزخ والآخرة حرم علينا الخوض فيه إذ الأصل الجامع لكل علم كتاب
الله وسنة نبيه محمد صلي الله عليه وسلم. ولم يرد فيهما الأمر بالبحث عن ذلك بل عندنا
ورود النهى فيه أقرب، وجميع الأكابر من الصحابة. بل كلهم على ذلك ولسنا نبتدع فى الدين
ما لم نؤمر به انتهى.
وقال الإمام مالك لا يصح لأحد العلم بالله على ما يعلم الحق به نفسه ولو أمكن ذلك ولو
بوجه لتساوى الحق الخلق فى العلم والمعلوم، وهذا سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم يقول:
"سبحانك ما عرفناك حق معرفتك".
وقال الإمامان الجليلان أبو حنيفة وأحمد رضى الله عنهما: لا نصف الحق سبحانه وتعالى
إلا بما وصف به نفسه فى كتابه وعلى أيدى رسله عليهم الصلاة والسلام، ولا نطلق عليه من
الأقوال إلا ما ورد به على لسان محمد صلي الله عليه وسلم، وقال أبو الحسن الأشعرى رضى
الله عنه قبل موته بساعات: لا أكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ولا بخطأ فى تأويل بعد ما نطقوا
بالشهادتين، وأقول هم قوم أخطأوا وحسابهم على الله تعالى، وقال القاضى أبو بكر الباقلانى:
رحمه الله: العقل أحد الحواس، والحق سبحانه وتعالى لا يدرك به، بل إنما يدرك به سبحانه
وتعالى وبالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فإذا علمت ذلك فأرح نفسك حيث أراحك
الحق واستعد لما أنت مأمور بفعله ومحاسب على تركه. وغاية الأمر فى ذلك أن يكون
الاعتقاد قولاً جزماً. واعتقاداً وسطاً من غير تعطيل ولا تجسيم، وكل ما ورد من التشابه آمنا
به قولاً واعتقاداً على علم الله فيه من غير تأويل ولا تحكيم، فإنه تعالى أعلم بما أطلقه على
نفسه من الوصف اللائق به سبحانه وتعالى، ولو لم يكن فى النهى عما ذكر إلا قوله تعالى:
{ويحذِّركُم الله نَفْسه}، وقوله صلي الله عليه وسلم: "كلكم فى ذات الله حمقى" لكان كفاية فى
الزجر عن مثل ذلك {والله ي عَلم وأَنْتُ م لاََت عَلمون}.
القسم الثانى من العلم: وهو ما انتجته الأعمال الشرعية من تصفية القلوب وتزكية النفوس
من اليقين والمعارف والأسرار وغير ذلك، مما لا يحصى، والميزان الحافظ لذلك على ما
تصف به الاعتصام بحبل الله وهو كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، ولذلك ثلاثة
طرق: طريق الصديقية والشهادة والولاية، فالصديقية اسم لترك المناهى فمن أحبكم ترك
المناهى، وانقادت نفسه إلى الموت وترك المألوفات، والخروج من العوائق والعوائد، وغلظ
الطبع واستحكام الشهوات، قلت أوجلت، فقد استقام مع الله حق الاستقامة، وليس ذلك لبشر بعد
النبيين إلا لأبى بكر الصديق رضى الله تبارك وتعالى عنه، ولذلك أعطى مقام التسليم حظه
الأوفر، وأطلق عليه اسم الخلة، وقد ورد فى الحديث أن الله تبارك وتعالى يتجلى فى الآخرة
للأخلاء الثلاثة محمد وإبراهيم وأبى بكر تجلياً خالصا، وفى رواية أن الله تعالى يتجلى للناس
عامة ويتجلى لأبى بكر خاصة، وقد شبه صلي الله عليه وسلم أبا بكر بإبراهيم فى قوله صلي
الله عليه وسلم: "إنما مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم" إشارة إلى تحقيق أبى بكر بالخلة التى هى
تسليم النفس والولد والمال لله رب العالمين، وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه من أمن
الناس على رسول الله صلي الله عليه وسلم بنفسه وولده وماله، قال صلي الله عليه وسلم
مادحا له ومعلما له باستيفائه مرتبة الصديقية بكمالها: "من أراد أ، ينظر إلى ميت يمشى على
وجه الأرض فلينظر إلى هذا" ثم أوضح ذلك بقوله: "ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاةٍ ولا صيامٍ
ولكن بشئ وقر فى صدره" وهو برد اليقين الذى وجده إبراهيم عليه السلام حين ألقى فى النار
ووجده صلي الله عليه وسلم حيث قال:" فوجدت برد أنامله بين ثديى فعلمت علم الأولين
والآخرين "، وذلك هو الذى صب فى صدر أبى بكر ووقر فيه حيث قال صلي الله عليه وسلم:
"ما صب فى صدرى شئ إلا صببته فى صدر أبى بكر" فلذلك استحق الخلة والخلافة حياً
وميتاً وحاصل هذا الطريق التى رأسها أبو بكر رضى الله عنه أن ترك المناهى هو صدر
الإيمان، والواقع عليها بالترك أول الإيمان ثم تنابعت الأوامر بعد ذلك شيئاً فشيئاً. فالإيمان
جاء فى ترك المناهى حتماً من غير ترخيص فى وقوع شئ منها، قال صلي الله عليه وسلم:
"ما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" وأما طريق الشهادة فهى التزام
الأوامر وانسحاب الأعمال على مراتب الدين كله، وليس ذلك لبشر بعد النبيين إلا لعمر بن
الخطاب رضى الله عنه فمن استتم فيه حكم المراتب الثلاث التى هى الإسلام والإيمان
والإحسان سمى مؤمناً كاملاً، فإذا أحكم ترك المناهى بقدر تلك المراتب التى أنسجت أعماله
عليها كان من الراسخين فى العلم، قال الله تعالى: {أَفم ن شَرح الله ص دره لِلإسلام فَهو عَلى
نُورٍ مِ ن ربهِ} والنور هو العلم بتفصيل ما أمكن الإتيان به من المراتب الثلاث، فلما كان عمر
رضى الله عنه من أحكم الناس فى التزام الأوامر حتى وصل فى ذلك إلى ذروة كان الأمر
بعده فيها إلى النقص، ولم يدع باباً من المناهى أتصف به أبو بكر رضى الله عنه إلا أخذ عمر
فى مقابلته وجهاً محموداً وإن لم يؤمر به شرعاً، فلذلك شبهه صلي الله عليه وسلم بموسى
عليه السلام المخصوص بالتكليم الذى هو أعلى طرق العلم بقوله صلي الله عليه وسلم: "إن
يكن فى أمتى محدثون فعمر" والتحديث فرع من مكالمة الحق لعبده فى سره كما وقع له فى
ذلك موافقة القرآن فى مواضع كثيرة، وكما وقع له فى اسارى بدر وغيرها، وقد أفرد التحديث
بهذا الاسم عن التكليم، كما أفردت الصديقية بذلك الاسم عن الخلة التى هى فرع منها، وحاص
هاتين المرتبتين أن المعارف والأسرار الدينية الحالة عن التزام الأوامر وترك المناهى هى
طرق الكسب والمجاهدة ومناقشة النفوس والتسليم والتزام العبودية والحفظ لحقوق العباد، كما
درج على ذلك السلف الصالح من غير رؤية إلى حصول كرامة من شهود أو كشف أو حال
أو غير ذلك، إذ هذه الطريق هى العبودية المحضة ألتى لا سيادة فيها لأحد من الأئمة بوجه
وإن ظهر على المتصف بما ذكر كرامة أو غيرها فهو مغرور عن ذلك بباطنه غير ناظر إليه
لانشغاله بما كلفه الحق ورضيه له فإن الكرامة الكبرى إنما هى الاقتفاء والاقتداء لآثار رسول
الله صلي الله عليه وسلم، حسبما أمكن العبد فعله والتخلق به فى جميع ما ورد به الكتاب
والسنة وقال الله تعالى: {والَّذيِن جاهدوا فِيَنا لََن هدِينَّه م سبَلنا وإن الله لَمع الم حسِنيِن} والأمر فى
ذلك وغيره موقوف على السابقة بحسن الخاتمة وهو المراد بقوله: {ي مح الله مايشاء ويثْبِت}
وبقوله صلي الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة" الحديث. وقال ابن مسعود
رضى الله عنه: من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحى لا يؤمن عليه الفتنة، وقد كان
عمر بن الخطاب رضى الله عنه مع شدة خوفه وعظيم مرتبته يسأل حذيفة بن اليمانى عن
نفسه ويقول هل تعلم فى شيئاً من النفاق. وهذه مرتبة العبودية المحضة، وهى المخصوصة
باسم الولاية حقاً لقوله تعالى: {أَلاَ إن أ ولياء الله لاَ َ خ وفُ عَليهِ م و َ لا ه م ي حزنُون * الَّذِين آمنُوا
و َ كانُوا يتَّقُون} الآية، وأما الولاية فهى باسم الصلاح فى قوله تعالى: {فَأُولئِك مع الَّذِين أَنْعم الله
علْيهِ م مِن النَّبيين والصديقين والشُّهداءِ والصالحِين} وهى مواهب مخصوصة لأقوام
مخصوصة على عدد مخصوص كالأوتاد والأبدال، والأئمة إلى غير ذلك من أصحاب الدوائر
والأعداد وأصحاب النوب والأفراد، وهم دوائر عدد لا يزيدون أبداً ولا ينقصون على عدد
مراتب الكون من العرض إلى الثرى فعددهم محفوظ على المراتب لا بالأشخاص، فإنه قد
تكون المرتبة مخصوصة بأربعة أشخاص مثلاً، فيليها ثلاثة أو خمسة لأن فيهم رجلاً بمنزلة
رجلين أو رجل غير كامل فيكمل من مرتبة أخرى، ومن أكابر رجال الدوائر أهل الكهف
رضى الله عنهم أجمعين آمين، وبالجملة فلا طريق إلى هذه المرتبة ظاهرة حيث لم يتقيد فى
الشرع بعلم أو عمل يوصله إليها لأنها أخذة تأخذ العبد على أى حالة هو عليها فتقلب عينيه
إبرزاً خالصاً فى أسرع من لمح البصر، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلي الله عليه وسلم: "إن
بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم يمسى الرجل فيها مؤمنا ويصبح كافرا، ويمسى فيها كافراً
ويصبح مؤمناً" وذلك عند ظهور سلطان الوقت صاحب هذه المرتبة خليفة الله الأعظم محمد
المهدى عليه السلام، وقد ورد فى بعض هذه الأخبار أن حكم هؤلاء القوم فى هذه الدار كحكم
الخلق الذين يخلقهم الله عز وجل ليكمل بهم عمارة الجنة، وقد ورد فى الصحيح أن بهم يرفع
الله القحط والجدب والمحل والخسف، وبدعائهم ينزل المطر ما داموا فى الأرض بين أظهر
الناس، وهم الشعث الغبر الدنسة ثيابهم الذين إذا خطبوا لم ينكحوا وإذا استأذنوا لا يؤذن لهم،
وإذا تكلموا لا يسمع لهم، وأكثر هؤلاء سوقة ومسببون إلا قليلا منهم ممن لا تعاظمهم الرتبة
أن يتعاطوا أحوال الدنيا وإليهم الإشارة بقول على بن أبى طالب رضى الله عنه أن الله تعالى
أخفى ثلاثاً فى ثلاث أخفى رضاه فى يسير من طاعته، وأخفى غضبه فى يسير من معصيته،
وأخفى وليه بين عباده، فلا يتسصغروا شيئاً من الطاعات والمعاصى، فربما وافق ذلك من الله
رضاه أو سخطه وأنت لا تشعر ولا تحقر عبداً تراه، فربما كان ولياً لله. وأنت لا تعلم ولا
تلحق بأهل هذه المرتبة أهل الشطحات وأرباب الأحوال والمجاذيب، وإن ظهر منهم خرق
العوائد، وكثرت منهم ظنهم غر القوم ولهم من الأدب معهم كما لغيرهم من الكمال، بل أعظم،
وقد اجتمعت هذه المراتب كلها فى خاتم الولاية المحمدية وهو المهدى أخو عيسى عليهما
الصلاة والسلام فى الختمية لقوله صلي الله عليه وسلم فى حقه عليه السلام: "يقفوا أثرى ولا
يخطئ" كما جمع الله له مرتبة الدعوة إلى الله تعالى بالسيف وإقامة الحجة وهذه هى مرتبة
العصمة التى لا يتصف بها إلا نبى، وخليفة الله تعالى، وقد قيل لأبى بكر الصديق رضى الله
عنه يا خليفة الله، قال لست بخليفة الله إنما أنا خليفة محمد صلي الله عليه وسلم، وخليفة الله هو
المهدى عليه السلام الآتى خاتماً لهذه الدورة المحمدية، ولذلك لم يأت إلا من آل بيت النبوة،
وهو الوارث لعلوم جده أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليهما السلام، كما كان وارثاً لعلوم
خاتم الأنبياء محمد صلي الله عليه وسلم، فلذلك أثمرت فى نبيه ختم الولاية كما أثمرت فيه
صلي الله عليه وسلم ختم النبوة، وهو أحد من وزن بهذه الأمة فرجحها كأبى بكر وعمر
رضى الله عنهما، ثم اعلم أن العلوم الحاصلة عن طريق الكسب والوهب من علم التوحيد
يجب سترها عن الناس لما فيها من الغرابة والتبرى من المعقول والمنقول، وقد روى البخارى
عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أنه قال: حملت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم
جرابين أما الواحد فبثثته فيكم، وأما الآخرة فلو بثثته فيكم لقطع منى هذا البلعوم، وقال ابن
عباس رضى الله عنهما: لو ذكرت لكم تفسير قوله تعالى: {يَتنزلُ الأ مر بيَن هن} لرجمتونى
ولقلتم إنى كافر، وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه لو جلست أحدثكم ما سمعت من فم
أبى القاسم صلي الله عليه وسلم لخرجتم من عندى وأنتم تقولون إن علياً من أكذب الكاذبين،
وقد كان الحسن البصرى رضى الله عنه يدعو إخوانه ويغلق بابه ويتحدث مع كل واحد
بمواجيده وذوقه وما أنتجه له عمله من العلوم والأسرار فلولا علموا وجوب كتمانه لم يفعلوا
ذلك وقد اقتفت الكمل من الأولياء هذه الآثار عن الصحابة والتابعين صفقة على ضعفة الناس
الجاهلين بهذا الطريق اتباعاً لقوله صلي الله عليه وسلم: "حدثوا الناس بما يفهمون اتحبون أن
يكذب الله ورسوله" ولذلك لم يظهر على أحد من السلف الصالح شطحات ولا تأويلات ولا
خروج عما تقتضيه مراسم الشريعة. وكان أبو القاسم الجنيد رضى الله عنه كثيرا ما يقول
عملنا هذا مشيد بالكتاب والسنة فهذا ما يجب على العارفين الراسخين، وأما غيرهم فالأدب
منه إذا رأى كتاباً فى علم لا يعرفه مبتدأ فيه بالبسملة والحمدلة والثناء على الله تعالى والصلاة
على نبيه صلي الله عليه وسلم، ثم تغير الكلام على فهمه بين مفهوم وموهوم، وبين معقول
ومجهول فالطريق الأسلم فى حقه إن كان سيئ الاعتقاد أن لا يؤمن به ولا يكذب به ولا
يخوض بفهمه، وأدلة عمله فيما لا علم له به ولا قدم له فيه راسخة وليخش من قوله تعالى:
{بلْ كَذَّبوا بِما لَ م يحِيطُوا بِعلْمهِ ولما يأْتِهِم تَأْوِيلُه} ومما أدب الله تعالى رسوله صلي الله عليه
وسلم الذى أوتى علم الأولين والآخرين {و َ لاَتقْفُ ما لَيس لَك بِهِ عِلْم إن السمع والبصر والفُؤَاد
كُلُّ أْولئك كان عنْه م سئُولاً} وفى قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام ما يؤدب
العالم ويعلم بالجاهل، وفى قوله تعالى: {وَف وق كُلّ ذِى عِلْمٍ علِيم} ما يريد إنكار المنكرين
واعتراض المعترضين لو كانوا يفقهون، وقد قال الإمام الشافعى رضى الله عنه للإمام أحمد
ابن حنبل حين سأل شيبان الراعى رضى الله عنه عن مسألة يا أحمد إن الإنكار ركن عظيم
من النفاق إذ أصل الكفر عدم التصديق، وهو فى حق النبى كفر وفى التابع نفاق لأن للتابع
حقاً كما للمتبوع، والعين الممدة لهما واحدة سما وعليه أمارات الإسلام، وقد قال أبو الحسن
الأشعرى رضى الله عنه فى كتاب المقالات تؤمن بكرامات الصالحين إذ هى آثار المعجزات
وكما يصل الصالح إلى إظهار ما يعجز العقول عن قبول فى الحسن، فلا جرم أنه يعطى القوة
فى الفهم إلى حد يقف دونه علم العلماء وفى هذا القدر كفاية لمن هدى إلى الصراط المستقيم.
والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
القسم الثالث من أقسام العلم الشرعى هو ما جاء الإيمان به مفصلاً كأحكام الصلاة والزكاة
والصيام والحج إلى غير ذلك من قواعد الإسلام وفروعه التى يزيد الإيمان بفعلها وينقص
بتركها، ومجموع ذلك تسع وسبعون شعبة أو سبع وسبعون شعبة أو خمس وسبعون أو ثلاث
وسبعون. كما ورد ذلك ملحقاً بالإيمان وما عدا ذلك من فعل المنوبات والترغيبات. فلا ينقص
الإيمان بتركها إن شاء الله تعالى إلا أن يأتى بشئ من المعاصى المقتضية لاحباط العمل.
وذلك مجهول فى المعاصى معين على ثلاث: الشرك وما قاربه من نفاق وزندقة وسخر إلى
غير ذلك وعدم التزام العبودية. وما قاربه من سوء الاعتقاد وعدم التسليم إلى غير ذلك.
والثالث الاستغراق فى محبة الدنيا وما قاربه من ظلم العباد. والاستنان بالسيئات، إلا أن تأتى
الخاتمة على وجه من الخير اقتضاه الحق فى ذلك العبد، وأما ما استنبطه المجتهدون من
الكتاب والسنة من أحكام الدين وفروعه. فقد دونت مذاهب كثيرة فاختار الله من ذلك هذه
المذاهب الأربعة المشهورة سوى مذهب المحدثين رضى الله عنهم أجمعين. وحاصل ما اتفق
عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون أن التمسك بهديه صلي الله عليه وسلم فى الأقوال
والأفعال، والأوامر والنواهى وغير ذلك مما صرح به الكتاب والسنة أولى من التمسك بكلام
غيره صلي الله عليه وسلم. وإن كان أعلم الناس وكان للعبد فى أمور دينه ودنياه وعلى ذلك
دون المجتهدون مذاهبهم إما بإشارتهم أو بفعل أتباعهم بعدهم. وقد قال الشافعى رضى الله عنه
إذا صح الحديث فهو مذهبى. ونهى رضى الله عنه عن تقليده وتقليد غيره فى جميع ما
استنبطه بفهمه واجتهاده، وكان رضى الله عنه يقول: إذا قلت قولاً ورأيتم فى حديث رسول
الله صلي الله عليه وسلم ما يخالفه فاعملوا بالحديث واضربوا بقولى عرض الحائط، وقال
الإمام مالك رضى الله عنه كل أحدٍ مأخوذ من قوله مردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلي
الله عليه وسلم. وقد صحت الأحاديث الواردة بهديه صلي الله عليه وسلم. فى عباداته،
ومعاملاته وغيرهما من أمور الدين والدنيا. وقد حبب للفقير فى كتابة هذه الأوراق ليذكر بها
إخوانه ببعض ما وجب عليهم علمه وعمله واعتقاده من ربع العبادات على حسب الوارد فيه،
إذ هو الشرع الحنيفى {الَّذِى َ لا يأتِيه الباطِلُ مِن بين يديهِ ولاَ مِ ن خَلْفِه} مستمداً فى ذلك من
كتب الحديث الصحيحة المعتمدة فى تدوين جميع المذاهب، ولولا ضعف الاستعداد واشتغال
القلوب فى هذا الزمان لبين الفقير بعون الله تعالى فى هذا الكتاب كل حديث إلى روايه، وإلى
من تمسك به من المجتهدين لكن بحمد الله تعالى جاء جامعاً لما اشتملت عليه المذاهب الأربعة
من أدلة ربع العبادات، وما انضم إلى ذلك. وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد
وحسبى الله ونعم الوكيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق