باب جامع لآداب جميع ما تقدم من هذه الأبواب
الطهارة وأصلها الحدث الموجب للوضوء أو الغسل، وإنما كان سبب ذلك الأكل وما
تولد من شهوته وهو الجماع، لأنه أقوى حكماً من الأكل، فكذلك عوقب فيه بعموم البدن
بالغسل، وأما الوضوء فإنما سببه الصلاة فقط دون غيرها، فخوطب فيه بغسل الأطراف
تخفيفاً. وكان سبب أكل آدم عليه الصلاة والسلام من الشجرة إرادة الحق بواسطة إبليس
فوجب تطهير كل ما سرت فيه تلك الأكلة التى كان إبليس سببها، لأنه قذر تولد من إغوائه
القذر والنجس، فلذلك جاء الشرع بوجوب الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج تطهيراً
واستعداداً، كما ورد فى الصحيح أن تلك الأكلة التى أكلها من الشجرة أقامت فى بطنه ثلاثين
يوماً وطلبت الخروج وليست الجنة محلاً لمثل ذلك، وكذلك الحج إنما كان سبباً لتوبته حتى
تلقى الكلمات من ربه فى تلك المنازل.
وكذلك الزكاة إنما وجبت لتعاطيهم أسباب الدنيا التى سببها بقاء هذه النية بالأكل
والشرب والجماع وليست الدنيا غير ذلك، وذلك كله هو من معنى قوله صلي الله عليه وسلم:
الطهور شطر الإيمان، ولما كانت الدار الآخرة دار الكمال ومحل الطهارة والنزاهة عن
الأقدار والخبائث التى اشتملت عليه هذه الدار، طولب العبد بالطهارة والاستعداد للوقوف بين
يدى الحق تعالى ومجاورته، والدين مبنى على النظافة وهى الطهارة من الأحداث والأوساخ
ظاهراً، ومن المخالفات باطناً فيتشبه بعباد السموات والأرض وغير ذلك من المخلوقات، فإنها
كلها طاهرة متنزهة عن المخالفات، عائدة تلك الطهارة لبارئها، وهو القدوس الطاهر جل
وتعالى، وأما آداب الصلاة فاعلم أنها أكبر شعب الإيمان بعد الشهادتين، قال رسول الله صلي
الله عليه وسلم: العهد الذى بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وقال رسول الله صلي الله
عليه وسلم مفتاح الصلاة الطهور، وهو النظافة للدخول على الحق ومناجاته بكلامه وبواسطة
رسوله صلي الله عليه وسلم، فيفتح الصلاة بقوله: الله أكبر من أن يقبل على غيره أو يلتفت
إليه لما عرف من جلال الحق وعظم خطره، حيث كان الحق قبلته والقرآن كلامه والرسول
واسطته، وهذه الحالة لا تكون لشئ من العبادات كلها، فإنها على صورة عبادة العالم أجمع،
فالقيام فى الصلاة وصف من أوصاف القائمين فى الملأ الأعلى الذين لا يركعون أبداً والهبوط
وصف من أوصاف الملائكة المنزلين والركوع وصف من أوصاف الراكعين الخاضعين الذين
لا يرفعون رءوسهم أبداً، والرافع من الركوع وصف من أوصاف الصاعدين، والسجود
وصف من أوصاف الملائكة الساجدين، والخشوع ليكون مع الخائفين والمشتاقين وإلقاء السمع
وذم نفسه عن كل ما لا يليق بالصلاة ليكون من الحافظين الكاتبين، ومع هذا كله فلا يقوم فعل
ذلك وإضعافه بشئ من حقوق الله عز وجل لما لا يملأ قلب المصلى من العظمة والجلال.
وأعلم أن الوجود كله بأجزائه مصل لله تعالى بدوام وجوده لا ينفك عن الصلاة حيث
أقيم فى مقام العبودية لله تعالى، وليس فى العبادات من مقام العبودية لله تعالى فيه أظهر من
الصلاة، فمن أدام النظر والمراقبة ورؤية التقصير ودوام الاستغفار وملازمة الذكر، وعمى
عن عيوب الناس وانفتحت له عيوب باطنه كلها ورأى الوجود كله ظاهراً وباطناً مسبحاً
مصلياً قال الله تعالى: ﴿ولله ي سجد م ن فى السمواتِ والأَرضِ طَ وعا و َ كرها وظِ َ لالُ هم بالْغُدو
والآصالِ﴾ ومن ترك فقد خالف الخليفة كلها، ولذلك ورد أن تارك الصلاة يحشر مع فرعون
وهامان، لأنه تأبى عن العبودية والتواضع لله كما فعل فرعون، فإن الذى لا يخضع لأحد هو
الله وحده فمن صلى بجسده وفعل أركان الصلاة كما استطاع وأنذر نفسه فى كل ركن من
أركانها فى معانيها الباطنة، فقد صلى بجسده وعقله الصلاة المكتوبة ووجد طعم ذوق معانى
الصلاة وما فيها من الأسرار المكنونة وأطلعه الله على ما يستحقه فى تلك الصلاة من الجزاء
عاجلاً وآجلاً إن شاء الله تعالى.
وأما الزكاة فاعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل الزكاة طهراً للأموال والأبدان من
النقص والفساد فيهما، وتزكية وتنزيها للنفوس والأرواح من خبائث الأوصاف والأخلاق،
والتطهير إنما يكون من الخبث والنجس كما ورد فى الصحيح أنها أوساخ الناس، وكما ورد
فى الماء الذى يتوضأ به الناس إن ذنوبهم وخطاياهم تخرج منهم فيه وقد خلق الله الخلق وأفقر
بعضهم إلى بعض وجعل منهم الأغنياء والفقراء وذوى الحاجات المختلفة ليستقيم إيجاد
الخليفة، فلو خلقوا كلهم أغنياء أو فقراء لبطلت حكمة الوجود كما قال تعالى: ﴿ورَف عَنا ب عض هم
فَ وقَ ب عضٍ درجاتٍ لِيتخِذَ ب عضهم بعضا سخْرِيا﴾ فجعل للفقراء وذوى الحاجات حقوقاً فى
أموال الأغنياء هى مفروضة عليهم ليس لأصحاب الأموال فيها شئ، لأن المال مال الله
والخلق خلق الله يعطى من يشاء المقدار الذى يشاء على حسب ما بينه النبى صلي الله عليه
وسلم فى شريعته، وقد تقدم بيان ذلك فممسك الزكاة إنما يأكل أو مساخ الناس الفقراء، بل
دماءهم، فأداء الزكاة الواجبة أقل درجات الطهارة فى الأموال، وأما التطوع الزائد فهو للخلل
الذى لعله يقع فى أداء الواجب كما فى الصلاة، وأما كونها طهارة للنفوس والأرواح فلقوله
تعالى: ﴿خُذْ مِ ن أَموالِهم صدَقةً تُطهرهم وتُزكِّيهِم بها﴾ فمتى لم تؤد المفروضة لم تطهر
الأعضاء بالنوافل المذكورة فى الأحاديث، ولذلك ورد أن مانع زكاة الماشية يبطح وتمشى
عليه بقوائمها وتنطحه بقرونها، لأن أعضاءه لم تنشط بإعطاء الزكاة لأهلها، بل انقبضت
وانضم بعضها إلى بعض بالبخل الشديد الذى لا بخل أكبر منه لأن منع الزكاة أعظم درجات
البخل، وهو بخل بما ليس له، وأداؤها أقل درجات السخاء، لأن ذلك القدر مال الله تعالى تحت
يده وديعه، والمال ماشية وغيرها له علاقة بقلب مالكه فهو يملكه ويشده ويضمه إليه بتلك
العلاقة، والمال طائع له فى جميع ما يصرفه، وباستغراق الحب فيه تعبده المال وصار ذليلاً
لمحبوبه كما ورد: نعس عبد الدينار والدرهم.
ومقام العبودية التذلل تحت أقدام معبوده، فهذا من بعد بعض معانى الزكاة، (اعلم) أن
الوجود كله إذا نظرته وجدته متعبداً لله تعالى بالزكاة كما هو متعبد بجميع شرائع الإسلام، فإن
الدين عند الله الإسلام ﴿وَله أَسَلم م ن فى السمواتِ والأَرضِ طَ وعا و َ ك رها﴾ وإن نظرت إلى
الأرض التى هى أقرب الأشياء إليك وجدتها تعطى أقرب الخلق إليها جميع بركاتها لا تبخل
عليهم بشئ مما أودع عندها من فصول العام كلها، وكذلك النبات يعطى ما عنده من جميع
أنواع الأشجار والحيوان والبحر والسموات والأفلاك والشمس والقمر والنجوم الكل متعاون
بعضه مع بعض لا يدخر شيئاً مما أودعه الحق عنده لغيره كل ذلك فى طاعة الله تعالى، لأن
الوجود كله فقير بعضه إلى بعض قد لزمه الفقر، وشملته الحاجة وعطف بعضه على بعض،
وهكذا شاهد الموقنون جميع ما دعت إليه الرسل بيننا واضحاً فى كل شئ وعاماً فى جميع
الموجودات ولذلك سماهم الله تعالى موقنين قال تعالى: ﴿و َ كذلِك نُرِى إبراهِيم مَلكُو َ ت السمواتِ
والأَرضِ وليكُون مِن الموقِنين﴾.
وأما الصوم فقد تقدم أنه من شعب الإيمان، وأما وجه الحكمة فيه فالنية والحسبة
لأجره على الله تعالى، والصوم عن المنهيات الموبة للعذاب وحفظ الجوارح وزمها وإمساكها
فى أيام الصوم دون لياليه، والصوم وصف من أوصاف الربوبية لا يتصف به على الكمال
والدوام إلا الله كما قال تعالى: ﴿وهو يطْعِم ولا يطْعم﴾، وما فى الصحيح: الصوم لى وأنا
أجزى به، فأضافه إلى نفسه، فالصوم يقطع أسباب التعبدات كلها لغير الله تعالى ويورث
الحرية من رق الشهوات، لأن المراد من الإنسان أن يكون مالكاً للأشياء وخليفة عليها، إلا أن
تكون مالكة له لأنه إذا استغرق فى أغراضه وملكته السهوات فقد قلب الحكمة وصبر الأعلى
أسفل. وأعلم أن اعتبار صوم عام قد شمل الموجودات كلها كغيره من أنواع العبادات، وإذا
الصوم هو الإمساك والتقييد هو الخروج من وظيفة وقيد به كل موجود، وهذا إذا نظرت
الموجودات كلها وجدت كل واحد قد لزم ما قيد به وأمر به فترى الثقيل قد أمسك فى مقامه لا
ينتقل، والخفيف لا يصعد والمتحرك لا يسكن، والساكن لا يتحرك وكل شئ مزموم بزمام
الأمر فاعل لما أمر به تاركاً لما نهى عنه ولذلك ورد فى الأخبار أن لله تعالى فى كل ليلة من
رمضان عتقاء من النار لا تنقطع أسباب الهوى والشهوات التى عتقت هؤلاء واسترقت غيرهم
إلا ما شاء الله تعالى.
(وأما) الحج فهو ركن عظيم من أركان الدين وقد جاء آخر الأركان كلها لأنه جامع
لمعانيها وحقائقها، ولأنه لا يتكرر فى العمر مرتين فكان مطلقاً عن حصر التكرار الموجب
لسآمة العبد ولماله ولما فيه من المشقة بجميع أركان البدن ظاهراً وباطناً، فكان كالتتمة
للشهادتين حيث لم يتكرر على العبد والتفسير عن جمع هذه الأحكام كلها عسير ويكفى منها
إحرام القلب والجسد لله تعالى ظاهراً وباطناً وعلى أدنى أوصاف العبودية التى لا يتحقق بها
على الكمال الأكمل الرسل والورثة والآثار التى وصلت إلينا عن الرسل صلوات الله وسلامه
عليهم، فى تلك الأماكن التى جعلها الله قياماً للناس وكعبة يلجأ إليها الخائفون تغنى عن إيضاح
ما عم حكمه الظاهر والباطن أبد الأبدين ودهر الداهرين، ولما كان معظم أركان الدين مما
تقدم جميعه الجهاد فى سبيل الله عز وجل، لأنه حقيقة تلك الشهادة، لم يكن لمن تخلف عن
صحبة رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولا لمن بعدهم نصيب من الجهاد والشهادة المطلقة،
جعل الله تعالى الحج قائماً مقام الجهاد فى سبيل الله عز وجل كما جعل الله تعالى الزيارة لقبره
صلي الله عليه وسلم قائماً مقام الهجرة، ولا فرق بين الحج والزيارة وبين الجهاد والهجرة قبل
موت رسول الله صلي الله عليه وسلم، وبعده وقد صحت الأحاديث أنه صلي الله عليه وسلم
حى فى قبره يصلى بأذان وإقامة كما أخبر بذلك فى حق موسى وغيره من الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام ليلة المعراج، فله صلي الله عليه وسلم من الحرمة بعد موته أشد منها فى حال
حياته، لأن الأمر فى حال حياته كان يجبر باستغفاره صلي الله عليه وسلم لمن أساء الأدب،
وقد انختم الباب بانتقاله صلي الله عليه وسلم إلى الله تعالى فلا جبر بجنابة بعد موته إلا إن
كان جاهلاً بما وقع منه، حسن الاعتقاد، كثير الاستغفار، وأقل ما يلتزمه عصاة المؤمنين من
الأدب لبلده الشريف كأقل ما يلتزمه أكابر الوزراء لملوكهم، والناس فى الأدب ما بين مقل
ومكثر بقدر ما وسعته إنسانية كل أحد من خوف الحق سبحانه وتعالى. وإلا فالكلام على ذلك
لا يفيد مع خلو القلب عن مثل ذلك كله، ولا شك أن كلام الله تعالى هو الحكم الحق والقول
الفصل، ولم يطرق قلوب أمثال من هم كالأنعام، فكيف لعبد يتجرأ على عبيد سيده يقول لم
تسمعه آذانهم، ولم تعه قلوبهم، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، كما جمع على محبته غيرهم
ممن أراد، ولا اعتراض على من شهد أن لا إله إلا الله وأن سيدنا محمداً رسول الله اعتقاداً
جازماً مخالطاً لدمه وروحه ونفسه، وإن خالف الأقوال والأفعال وحساب الكل على الله تعالى
فإنه تعالى يعلم من عباده ما لا يعلمه الخلق من بعضهم بعضاً، والتسليم أسلم للعلماء الراسخين
فكيف لا يكون أسلم لعامة المؤمنين أمثالنا، ومن جملة شعب الإيمان الجماعة لقوله صلي الله
عليه وسلم: من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وقال الله تعالى:
﴿وم ن ي َ شاقِقِ الرسولَ مِ ن ب عدِ ماَتبين لَه الهدى ويتَّبع غَير سبِيلِ المؤْمِنِين نُولِّهِ ما تَولَّى ونُ صلِهِ
جهنَّم وساءتْ مصِيرا﴾ والجماعة هى التآلف والتمسك بكتاب الله وبسنة رسول الله صلي الله
عليه وسلم ظاهراً وباطناً فى جميع الأحوال وهى فرض على كل من شملته الدعوة، فكل ما
اجتمعت الناس عليه واستحسنوه ولم يقدح فى كتاب الله ولا سنة رسول فهو من السنة،
والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا، وأصل الأعيان كله إنما كانت ذرات فما ظهر للأعيان
جرم ومقادير إلا بانضمام أجزاء كثيرة إليها، والحبل الذى يستقى به إنما هو شعرات وسائر
تآلف بعضها إلى بعض حتى سار فى تلك القوة العظيمة والمتانة وهكذا الدين الحنيفى إنما هو
أوامر ونواهى وترغيبات ومحمودات أظهرتها أيدى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
وتممها وختمها من جميع خواتيم الأخلاق كلها سيدا محمد صلي الله عليه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق